الحب كـــــــــ"مشوش" على الارادة التعاقدية
- KNOWLEDGE LAW
- 7 days ago
- 7 min read

المحامية
هبة ابو وردة
يرتب الإنسان على نفسه التزامات ينشئها بفعل علاقة قانونية عقدية وهي توافق إرادتين أو أكثر على إحداث أثر قانوني معين، مما يعني ان العقد لا يكون صحيحا ملزما الا إذا توافرت فيه أركانه الثلاثة الرضا (الارادة)، المحل والسبب، ويأتي الرضا في مقدمة هذه الأركان؛ فالإرادة هي جوهر العقد وروحه الناظمة، لذلك لا يكفي وجودها ظاهريا، إنما يجب أن تكون سليمة، ناضجة، حرة، واعية ومستقلة، أي خالية من العيوب التي تفقدها قيمتها القانونية، وهي الإكراه، الغلط، التغرير والغبن الفاحش.
قد يبدو الحكم على الإرادة بأنها معيبة ام لا أمر يسير في بعض الحالات، الا ان هناك حالات معقدة في تصدر فيها التصرفات عن أفراد ظاهرهم إرادة، وباطنهم الانقياد لسلطان نفسي أو عاطفية مضطربة، تجعل الإرادة في غير حالتها المُثلى، مما يضعنا نلتفت مجبرين إلى حالة عاطفية دفينة في النفس الإنسانية، قادت أفراد كُثر إلى تحمل آثار التزامات رتبوها على عاتقهم وهم مسلوبين القرار ضعيفين المسؤولية، وهي الحب.
تطرح حالة الحب الشديد اشكالية فريدة، في مدى تأثيرها على العقل والقرار؛ فقد يبلغ الوله والهوى الجامح حدا يشوش سلامة التمييز العقلي تفقده رزانته ويضعف استقلال الإرادة، وقد يدفع الإنسان إلى إبرام عقود هبة أو بيع أو تنازل مجحفة بدافع عاطفي بحت، فقد لا نجده مكرها بتهديد خارجي تقليدي، لكنه بلا شك مقيد بقيود عاطفية داخلية تدفعه للتصرف على نحو قد لا يختاره في حال اتزانه العقلي الكامل.
خاصة وأنه يكون مقترنة في بعض الحالات باستغلال الطرف الآخر لحالة ضعف النفسي أو اندفاع المتعاقد الناتجة عن الانبهار الشديد أو التعلق المرضي، سواء صراحة وبقصد أو ضمنا بمجرد قبول دون مراعاة لانعدام التوازن بين الأخذ والعطاء، فعلى الرغم من أن المشرع الأردني لم يورد نص صريح عن الاستغلال كعيب إرادة في نظرية عامة، إلا أنه أشار إلى مفهوم الاستغلال في بعض المواد، كإقرار ضمني بمعاملة المتعاقد الواقع في الاستغلال على أنه صاحب إرادة غير واعية تخضع لقواعد عيوب الإرادة.
الاستغلال بمفهومه الفقهي استفادة طرف من ضعف أو هوى أو طيش الطرف الاخر ليدفعه إلى عقد ذي غبن فاحش ما كان ليبرمه لولا ذلك الضغط، مما يجعله مزيج من عنصرين، أحدهما مادي يتمثل في عدم التعادل الصارخ في الاداءات، والآخر نفسي ويتمثل في استغلال ظرف الضعف او الاضطراب النفسي للمغبون.
قد تثور مسألة إثبات مدى فقدان الشخص لإتزانه المعتاد للحد الذي يمكن أن يشوش على إرادته في التعاقد، مما يضطرنا إلى الاستعانة برؤى علم النفس التي حللت بعمق تأثير العواطف الجياشة على عقل الإنسان وقراره، وما قد يرافقها من تغيرات نفسية إدراكية تؤثر في قدرة الفرد على الحكم السليم واتخاذ القرار المستقل، الواردة في آراء سيغموند فرويد وإريك فروم وآرون بيك.
يشير رائد التحليل النفسي سيغموند فرويد، في دراسات التماهي وفقدنا الحدود النفسية، إلى ان الإنسان في حالة الحب العارم يصل إلى درجة من الاندماج النفسي مع المحبوب، مما قد يفقده شيئا من استقلالية الأنا، حيث يقول فرويد: “عند ذروة حالة الحب، يتهدد زوال الحدود الفاصلة بين الأنا والموضوع؛ فعلى الرغم من كل ما تمليه الحواس، يعلن المحب أن ‘أنا’ و‘أنت’ شيء واحد، ويتصرف وكأن ذلك حقيقة”.
هذا الوصف العلمي يوضح لنا كيف يضيق وعي المحب، بحيث ينحصر في المحبوب وحده، مما يجعله ينفصل عن الواقع الخارجي جزئيا، أي أنه تحت تأثير أشبه ما يكون بحالة تنويم مغناطيسي عاطفي قابلا على اثرها للإيحاء والتأثر بمن يحب بشكل غير اعتيادي، مما يجعل من الناحية القانونية في حالة ذهنية غير متزنة مستعدا للتضحية بحقوقه أو امواله ارضاءا لمحبوبه، مما يفقده جزء من إرادته الحرة، اللازمة لاتخاذ القرارات التعاقدية الهامة، مشابها بذلك لحالة الإكراه المعنوي الذاتي أو الاندفاع القهري الذي يستلزمه الهوى الجامح.
كما قدم عالم النفس والفيلسوف الإنساني إريك فروم، دراسة مقابلة بين الحب الناضج وغير العقلاني، في كتابه “فن الحب”، كانت نتيجتها أن الحب غير العقلاني، يسوده فقدان الحدود الشخصية تماما كما في علاقات التملك المرضية، ويوضح فروم أن هذا النوع من الحب هو مجرد انفعال سلبي يفقد فيه المرء سيطرته، قد يفقده توازنه الداخلي ويجعله خاضعًا لعاطفته بدل أن يكون سيدا لها.
وهنا يكمن الخطر قانونا، فالإنسان في هذه الحالة قد يكون فاقدا للقدرة على التفكير بعقلانية في عواقب تصرفاته أو حماية مصالحه خاصة من استغلال الطرف الاخر، فهو تحت تأثير حالة تبعية عاطفية تجعله اسيرا لرغبات المحبوب؛ فمن منظور فروم فإنه يكون في حالة غير صحية تشوبها اللاعقلانية، يُعمى فيها عن رؤية استقلاله واحتياجاته خارج إطار المحبوب، بالتالي تفقده إرادته الحرة اللازمة لإتخاذ القرارات القانونية كالعقود.
أيضا يرى الطبيب وعالم النفس مؤسس العلاج المعرفي آرون بيك، في كتابه “الحب لا يكفي أبدًا”،عندما يقع شخص في غرام شديد، قد تسيطر عليه تشوهات معرفية في نظرته للمحبوب والعلاقة، وهذه التشوهات تقود إلى سوء تقدير خطير فقد يظن الشخص أن حبيبه معصوم من الخطأ أو لن يؤذيه أبدا، فيطمئن ويهمل الحذر في تعاملاته المادية معه، وقد يُبرم عقود تحت تأثير انفعال دون تفكير نقدي أو تمحص، وقد تتفاقم آثار هذه المشكلة في حال كان الطرف الآخر غير مخلص أو انتهازي، ويستغل هذه الحالة من اللاعقلانية لصالحه.
لطالما شاهد القضاء في البلاد التي تأخذ بنظرية الغبن العاطفي في العقود، على إعتبار أنه من عيوب الإرادة، حالات كثيرة وبعضها بآثار تعاقدية ضخمة، سواء بتعهدات مالية كبيرة أو بيع بثمن بخس، وبيوعات أخرى كانت بلا أثمان وقامت في أساسها على الهبة الواقعة تحت تأثير الحب، كما أن العامل المشترك في الكثير من هذه الحالات الانفصال السريع بعد الحصول على هذه المنفعة، مما جعلها قرينة على الإستغلال القصدي.
فعلى الرغم أن غالبية النظم القانونية تتشارك في عدم النص صراحة على الحب كعيب إرادة، إلا أن بعض الدول اتجهت لتطبيق المبادئ العامة كالإكراه أو التدليس أو القواعد الخاصة بالهبات على هذه الحالات، حيث تذكر التقارير أن الهبات الناشئة عن استغلال عاطفي أصبحت قابلة للإبطال على الرغم من غياب نص مدني صريح، فنجد في القانون الفرنسي توجها عاما لحماية من كان في “حالة ضعف نفساني” وقت التعاقد كالتعلق العاطفي شديد، شريطة إثبات سلوك استغلالي أو مناورة ضغط من الطرف الآخر.
كما أن بعض الدول العربية أيضا اتخذت اتجهاها نحو حماية مثل هذه الحالات، فعلى الرغم من أن القانون المدني المصري لا ينص على نظرية صريحة للإستغلال كعيب إرادة عامة، إلا أن المشرع المصري تنطرق للهبات في إطار العلاقات الأسرية والعاطفية من زاوية مختلفة، وأتاح فرصة الرجوع عن الهبة في حالات إستثنائية كالإخلال الجسيم من جانب الزوجة، وهو ما يندرج تحت “جحود”، كما أنه فتح الباب أمام من لم يتمكن من الرجوع عن الهبة للجوء إلى الطعن في الهبة نفسها وقت إبرامها إن توفرت أسباب قانونية لذلك (كالتدليس أو الإكراه)، إذا وقع عقد هبة تحت تأثير استعطاف عاطفي شديد أو وعود كاذبة من الزوجة.
فغياب النصوص الواضحة دفع الفقه المصري للدعوة إلى التوسع في مفهوم الإكراه الأدبي أو الاستغلال لحالات الاستغلال العاطفي، استلهاما من الشريعة الإسلامية التي تعتبر “استغلال الهوى” نوعًا من الخداع المحرَّم، ولا نغفل أن في الفقه الإسلامي قاعدة “هبة الواهب لنفسه ردٌّ عليه” والتي تبيح ضمنًا رجوع الأب في هبته لولده، وقد قضت المحكمة الدستورية العليا مؤخرا بعدم دستورية منع رجوع الوالد لابنه في الهبة ، مما يظهر مرونة في إعادة النظر بالتصرفات عند تبدل الظروف والاعتبارات الإنسانية.
كما أن العرف القضائي والمجتمع اللبناني، على الرغم من نظرية خاصة تعالج الاستغلال العاطفي في العقود، إلا أنه يقدر خصوصية بعض الحالات، مثل الهبات السخية التي يقدمها أحد الطرفين للآخر في علاقة خطبة أو معاشرة قد تفسر اجتماعيا على أنها عطايا بلا مقابل أكثر من كونها عقود معاوضة، والتي قد ترد أحيانا عند انتهاء العلاقة بشكل تعسفي.
حيث توجد أحكام في قضائية لبنانية متعلقة بخيانة الأمانة أو الإثراء غير المشروع يمكن أن تطبّق إذا ثبت أن أحدهم استغل عواطف الآخر للحصول على مكاسب مالية ثم تنكر له، لكن يبقى على الواهب المتضرر أن يثبت أن إرادته حين الهبة كانت معيبة، بتغرير عاطفي أو إكراه معنوي، وهي اجتهادات تقع على عاتق المحاكم، وفي قضايا مشهورة في لبنان، أبطلت المحاكم بعض الوصايا والهبات لنساء شابات حصلن عليها من رجال مسنين أثبت ورثتهم أن العلاقة قائمة على استغلال عاطفي وابتزاز أكثر منها مودة حقيقية.
وبالتالي فإن التشريعات المقارنة، حتى مع عدم وجود اعتراف صريح بأن “الحب الجامح” يعيب الإرادة، لكن مفاهيم كالاستغلال والاحتيال والإكراه الأدبي مرنة بما يكفي ليشمل التطبيق العملي حالات الاستغلال العاطفي وخاصة عند اقترانها بغبن فاحش أو دلائل سوء نية من الطرف المستفيد.
وبالعودة إلى المجتمع الأردني الذي سجل حالات عديدة كانت العاطفة الجارفة، مدخلا لملفات التنازلات والهبات والعقود أبرموها في غمرة حب أعمى، إلا أنها ما زالت حالات تقنط في عتمة التفسيرات القانونية، مما يتطلب التوجه إلى فحص النبض وعدم الاكتفاء بالبحث عن التوقيع، خاصة أن الأمر لا يتطلب الأمر تعديلا تشريعا مباشرا، رغم الفجوة القانونية خاصة وأن القانون الأردني يعتبر الإنسان الراشد، كامل الأهلية ما لم يكن مجنونا أو معتوها أو غائبا أو مريضا، إلا أنه لا يوجد ما يمنع من استخدام المبادئ العامة كالاستغلال، التعسف وغياب التوازن، أو حتى الإثراء بلا سبب، كأساس لإعادة تفسير الرضا كسلاح قانوني ناعم.
تتقاطع هذه الحالة مع اعتبارات قانونية ونفسية وأخلاقية، فمن جهة القانون يقدس حرية الإرادة في التعاقد، ومن جهة أخرى لا يمكن تجاهل الواقع الإنساني الذي قد تقع فيه الإرادة أسيرة سلطان الحب الجارف، إلا أن القانون المدني الأردني يملك من النصوص والروح ما يكفي لاستيعاب هذه الحالات ضمن عيوب الرضا، التي تمكنا من تبني نهج أكثر مرونة وإنصافا يضفي بعدا إنسانيا عميقا على تفسير القانون يجمع بين حكمة التشريع وحساسية علم النفس لصون كرامة الإنسان وحقوقه في أضعف حالته، كما أن الإقرار بمبدأ الغبن من حيث إستغلال المتعاقد في حالة طيش أو هوى في النفس، هو بحد ذاته صياغة نادرة ومرنة قد تفتح الباب أمام التفسير العاطفي.
حيث يكفي تطوير فقه قضائي يربط بين علم النفس والتعاقد، يعي أن العلاقة العاطفية غير المتكافئة قرينة ضعف الإرادة، لا سيما أن تتبنى أحكام محكمة التمييز الأردنية نهج تنسجم مع روح النصوص المدنية خاصة المادة 141 مدني التي تعطل نفاذ عقد المكره حماية لإرادته ، ومع المنطق الذي اعتبر المستَغل “غير واعي الإرادة”، لتكون بمثابة قضائية أن الضغط النفسي الناشئ عن علاقة عاطفية يمكن أن يشكل إكراها معنويا أو تغريرا يحمل معنى الاستغلال.
كما يجب وضع معايير موضوعية نسبية لإثبات الادعاء الذي تتجلى صعوبته في مسألتين، أولهما العاطفة كونها لا تقاس رقميا، والاخرى نية الخداع أو الاستغلال أو الإكراه المعنوي كونها غير مكتوبة، لكن الصعوبة لا تعني الاستحالة، فيجب الأخذ بعين الإعتبار عدم التناسب الصارخ بين ما قدمه الطرف الموله وما حصل عليه، واعتماد التقييم النفسي العاطفي في المحاكم المدنية لإثبات الظرف العاطفي الخاص وقت التعاقد، عن طريق شهادات تُظهر أن المتصرف كان في حالة هيام شديدة أو رسائل تبين مدى تعلقه غير العقلاني، إضافة إلى إثبات علم المستفيد أو سعيه للاستغلال، كأن يكون هو الذي ألح على نقل الملكية إليه أو استغل ثقة المحب به لإقناعه بأن هذا التصرف “إثبات للحب”؛ فاجتماع هذه القرائن يمكن أن يقنع المحكمة بأن الإرادة كانت مشوبة قهريا بالعاطفة ومستحقة للحماية.
إضافة إلى وضع معايير إثبات دقيقة لضمان عدم فتح الباب أمام تذرع كيدي بالحب، برسم معايير موضوعية نسبية لإثبات الادعاء، مثل عدم التناسب الصارخ بين ما قدمه الطرف الموله وما حصل عليه، وإثبات الظرف العاطفي الخاص وقت التعاقد، عن طريق شهادات تُظهر أن المتصرف كان في حالة هيام شديدة أو رسائل تبين مدى تعلقه غير العقلاني، إضافة إلى إثبات علم المستفيد أو سعيه للاستغلال، كأن يكون هو الذي ألح على نقل الملكية إليه أو استغل ثقة المحب به لإقناعه بأن هذا التصرف “إثبات للحب”؛ فاجتماع هذه القرائن يمكن أن يقنع المحكمة بأن الإرادة كانت مشوبة قهريا بالعاطفة ومستحقة للحماية.
ومحالة التوازن بين حرية التعاقد والحماية الواجبة، بنهج استثنائي حذر للتأكيد أن الهدف ليس التشكيك في كل تصرف بدافع الحب أو الحد من حرية الأحبة في تبادل العطاء، وأن الحماية تمنح فقط حيث يثبت أن الحب بلغ درجة التشويش على الإرادة وانعدام التوازن واستغلت الحالة بشكل غير أخلاقي، فالحب أيضا يمكن أن يكون باعثا نبيلا لتصرف قانوني صحيح وفاعل؛ فالعقود العاطفية ليست كلها مشوبة بالضرورة، بهذا الشكل لا تمس مبدأ استقرار المعاملات إلا في الحالات التي يستصرخ فيها الميزان اختلالا بيّنا.
فما بين القلب والعقد، تنزلق إرادة الإنسان في منحدر الإستغلال، خاصة أن الحب لم يكتب في النصوص، رغم أنه طرف حاضر بل ومهيمن احيانا، وبات اليوم ادارك هذا الحضور غاية في الاهمية حتى لا يبقى الحب اداة بيد من يتقن استغلالها.
Comments